[color=cyan][b][center][size=24][font=Arial Black]أما ما سماه الدكتور حتحوت "شتل الجنين" فهو قضية غاية الغرابة والإثارة. وهي تختلف عما كان يسأل عنه من قبل من "التلقيح الصناعي" الذي تلقح فيه بويضة امرأة بحيوان منوي من رجل غير زوجها، وهذا حرام بيقين لأنه يلتقي مع الزنى في اتجاه واحد، حيث يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وإقحام عنصر دخيل على الأسرة أجنبي عنها، مع اعتباره منها نسبا ومعاملة وميراثا، وإذا كان الإسلام قد حرم التبني ولعن من انتسب إلى غير أبيه، فأحرى به أن يحرم التلقيح المذكور، لأنه أشد شبها بالزنى.
أما قضية "الشتل" المسئول عنها هنا فليس فيها خلط أنساب، لأن البويضة ملقحة بماء الزوج نفسه، ولكنها تترتب عليها أمور أخرى هي غاية في الخطورة من الناحية الإنسانية والأخلاقية.
وإذا كنا نبحث أولا عن مشروعية هذا الأمر من الوجهة الدينية، قبل أن نبحث عن أحكامه إذا حدث بالفعل، فالذي أراه -بعد طول تأمل ونظر- أن الفقه الإسلامي لا يرحب بهذا الأمر المبتدع. ولا يطمئن إليه، ولا يرضى عن نتائجه وآثاره، بل يعمل على منعه.
إفساد لمعنى الأمومة
وأول هذه النتائج وأبرزها: أنه يفسد معنى الأمومة كما فطرها الله، وكما عرفها الناس. هذا المعنى الذي ليس في الحياة أجمل ولا أنبل منه.
فالأم الحقيقية في التصور المعروض للسؤال، هي صاحبة البويضة الملقحة، التي منها يتكون الجنين، هي التي ينسب إليها الطفل، وهي الأحق بحضانته، وهي التي تناط بها جميع أحكام الأمومة وحقوقها من الحرمة والبر والنفقة والميراث وغيرها.
وكل دور هذه الأم في صلتها بالطفل أنها أنتجت يوما ما بويضة أفرزتها بغير اختيارها، وبغير مكابدة ولا مشقة عانتها في إفرازها.
أما المرأة التي حملت الجنين في أحشائها وغذته من دم قلبها أشهرا طوالا، حتى غدا بضعة منها، وجزءا من كيانها، واحتملت في ذلك مشقات الحمل، وأوجاع الوحم، وآلام الوضع، ومتاعب النفاس، فهذه مجرد "مضيفة" أو "حاضنة" تحمل وتتألم وتلد، فتأتي صاحبة البويضة، فتنتزع مولودها من بين يديها، دون مراعاة لما عانته من آلام، وما تكون لديها من مشاعر، كأنها مجرد "أنبوب" من الأنابيب، التي تحدثوا عنها برهة من الزمان، لا إنسان ذو عواطف وأحاسيس.
حقيقة الأمومة
وإن من حقنا -ومن حق كل باحث عن الحقيقة- أن يسأل معنا هنا عن ماهية الأمومة التي عظمتها كتب السماء، ونوه بها الحكماء والعلماء، وتغنى بها الأدباء والشعراء، وناطت بها الشرائع أحكاما وحقوقا عديدة. فالأمومة التي هي أرقى عواطف البشر وأخلدها وأبقاها.
وهل تتكون هذه الأمومة الشريفة من مجرد بويضة أفرزها مبيض أنثى ولقحها حيوان منوي من رجل.
إن الذي يثبته الدين والعلم والواقع، أن هذه الأمومة إنما تتكون مقوماتها، وتستكمل خصائصها، من شيء آخر بعد إنتاج البويضة حاملة عوامل الوراثة، إنه المعاناة والمعايشة للحمل أو الجنين، تسعة أشهر كاملة يتغير فيها كيان المرأة البدني كله تغيرا يقلب نظام حياتها رأسا على عقب، ويحرمها لذة الطعام والشراب والراحة والهدوء. إنه الوحم والغثيان والوهن طوال مدة الحمل. وهو التوتر والقلق والوجع والتأوه والطلق عند الولادة. وهو الضعف والتعب والهبوط بعد الولادة. إن هذه الصحبة الطويلة -المؤلمة المحببة- للجنين بالجسم والنفس والأعصاب والمشاعر. هي التي تولد الأمومة وتفجر نبعها السخي الفياض بالحنو والعطف والحب.
هذا هو جوهر الأمومة. بذل وعطاء، وصبر واحتمال، ومكابدة ومعاناة.
ولولا هذه المكابدة والمعاناة، ما كان للأمومة فضلها وامتيازها، وما كان ثمة معنى لاعتبار حق الأم أوكد من حق الأب.
إن أعباء الحمل، ومتاعب الوضع، هي التي جعلت للأمومة فضلا أي فضل، وحقا أي حق، وهي التي نوه بها القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وحسبنا أن نقرأ في كتاب الله (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا، حملته أمه كرها ووضعته كرها، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)، (ووصينا الإنسان بوالديه، حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين).
ومعنى "وهنا على وهن": أي جهدا على جهد، ومشقة على مشقة، مما يؤدي بها من ضعف إلى ضعف.
وهذه المعاناة التي تتحمل الأم آلامها وأوصابها راضية قريرة العين، هي السر وراء تأكيد القرآن على حق الأم ومكانتها وأوردها فيما ذكرنا من آيات، وهي السر كذلك وراء تكرار الرسول صلى الله عليه وسلم الوصية بها، وتأكيد الأمر ببرها، وتحريم عقوقها، وجعل الجنة تحت أقدامها، من مثل: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب".
وفي الحديث المشهور في إجابة من سأل: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك … ثم أمك… ثم أمك… ثم أبوك".
وفي مسند البزار: إن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل أديت حقها؟ فقال: "ولا بزفرة واحدة -أي من زفرات الطلق والولادة". فإذا كانت الأم لم تتحمل أي شيء من هذه المخاطر والأوجاع والزفرات فما فضل أمومتها؟ ومن أين تستحق كل ما جاءت به الوصايا النبوية من زيادة برها؟
الأم هي الوالدة
ولا شك أن خير وصف يعبر عن الأم وعن حقيقة صلتها بطفلها في لغة العرب هو "الوالدة" وسمى الأب "الوالد" مشاكلة للأم، وسميا معا "الوالدين" على سبيل التغليب للأم الوالدة الحقيقية، أما الأب فهو في الحقيقة لم يلد، إنما ولدت امرأته. وعلى هذا الأساس سمي ابن المرأة "ولدا" لها، لأنها ولدته، وولدا لأبيه كذلك لأنها ولدته له.
فالولادة إذن أمر مهم، شعر بأهميته واضعو اللغة، وجعلوه محور التعبير عن الأمومة والأبوة والبنوة.
وما لنا نذهب بعيدا. وهذا هو القرآن الكريم يحصر حقيقة الأمومة في الولادة بنص حاسم، فيقول في تخطئة المظاهرين من نسائهم: (ما هن بأمهاتهم، إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم).
بهذا الأسلوب الجازم الحاصر، حدد القرآن معنى الأمومة: (إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم). فلا أم في حكم القرآن إلا التي ولدت.
والخلاصة أن الأم التي لا تحمل ولا تلد كيف تسمى "أما" أو "والدة"؟ وكيف تتمتع بمزايا الأمومة دون أن تحمل أعباء الأمومة؟
وأستطيع أن أضرب هنا مثلا بارزا للعيان يوضح موقف الشرع من الأم الحقيقية.